فصل: ذكر ما يتعلق بخلق السموات وما فيهن من الآيات

مساءً 11 :1
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 فصل في البحار والأنهار

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 14-18‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 53‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 19-20‏]‏‏.‏

فالمراد بالبحرين‏:‏ البحر الملح المر، وهو الأجاج، والبحر العذب هو هذه الأنهار السارحة بين أقطار الأمصار، لمصالح العباد، قاله ابن جريج، وغير واحد من الأئمة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ‏}‏‏.‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 32-34‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 31-32‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 24‏)‏

فامتنَّ تعالى على عباده بما خلق لهم من البحار والأنهار، فالبحر المحيط بسائر أرجاء الأرض، وما ينبت منه في جوانبها، الجميع مالح الطعم مر، وفي هذا حكمة عظيمة لصحة الهواء، إذ لو كان حلوا لأنتن الجو، وفسد الهواء، بسبب ما يموت فيه من الحيوانات، فكان يؤدي إلى تفاني بني آدم‏.‏

ولكن اقتضت الحكمة البالغة أن يكون على هذه الصفة لهذه المصلحة‏.‏ ولهذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحر قال‏:‏ ‏(‏‏(‏هو الطهور ماؤه، الحل ميتته‏)‏‏)‏‏.‏

وأما الأنهار‏:‏ فماؤها حلو، عذب، فرات سائغ شرابها، لمن أراد ذلك‏.‏ وجعلها جارية، سارحة ينبعها تعالى في أرض، ويسوقها إلى أخرى، رزقاً للعباد‏.‏ ومنها‏:‏ كبار، ومنها‏:‏ صغار، بحسب الحاجة والمصلحة‏.‏

وقد تكلم أصحاب علم الهيئة والتفسير على تعداد البحار، والأنهار الكبار، وأصول منابعها، وإلى أين ينتهي سيرها، بكلام فيه حكم ودلالات على قدرة الخالق تعالى، وأنه فاعل بالاختيار والحكمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 6‏]‏‏.‏

فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المراد به البحر الذي تحت العرش المذكور في حديث الأوعال‏.‏ وأنه فوق السموات السبع، بين أسفله وأعلاه، كما بين سماء إلى سماء، وهو الذي ينزل منه المطر قبل البعث، فتحيا منه الأجساد من قبورها‏.‏ وهذا القول هو اختيار الربيع بن أنس‏.‏

والثاني‏:‏ أن البحر اسم جنس يعم سائر البحار التي في الأرض، وهو قول الجمهور‏.‏

واختلفوا في معنى البحر المسجور‏:‏ فقيل المملوء، وقيل‏:‏ يصير يوم القيامة نارا تؤجج، فيحيط بأهل الموقف، كما ذكرناه في التفسير، عن علي، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن مجاهد، وغيرهم‏.‏

وقيل‏:‏ المراد به الممنوع المكفوف المحروس عن أن يطغى، فيغمر الأرض ومن عليها، فيغرقوا‏.‏

رواه الوالبي عن ابن عباس، وهو قول السدي وغيره، ويؤيده الحديث الذي رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد، حدثنا العوام، حدثني شيخ كان مرابطاً بالساحل، قال‏:‏ لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطاب فقال‏:‏ حدثنا عمر بن الخطاب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏ليس من ليلة، إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات على الأرض، يستأذن الله عز وجل أن يتفصح عليهم، فيكفه الله عز وجل‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 25‏)‏

ورواه إسحاق بن راهويه، عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، حدثني شيخ مرابط قال‏:‏ خرجت ليلة لمحرس، لم يخرج أحد من المحرس غيري، فأتيت الميناء، فصعدت، فجعل يخيل إلي أن البحر يشرف، يحاذي برءوس الجبال، فعل ذلك مراراً، وأنا مستيقظ، فلقيت أبا صالح فقال‏:‏

حدثنا عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات، يستأذن الله أن يتفصح عليهم، فيكفه الله عز وجل‏)‏‏)‏‏.‏

في إسناده رجل مبهم، والله أعلم‏.‏

وهذا من نعمه تعالى على عباده أن كف شر البحر عن أن يطغى عليهم، وسخره لهم، يحمل مراكبهم ليبلغوا عليها إلى الأقاليم النائية، بالتجارات وغيرها، وهداهم فيه بما خلقه في السماء والأرض، من النجوم والجبال التي جعلها لهم علامات يهتدون بها في سيرهم، وبما خلق لهم فيه من اللآلىء، والجواهر النفيسة، العزيزة الحسنة الثمينة، التي لا توجد إلا فيه، وبما خلق فيه من الدواب الغريبة، وأحلها لهم حتى ميتتها‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 96‏]‏‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏هو الطهور ماؤه، الحل ميتته‏)‏‏)‏‏.‏

وفي الحديث الآخر‏:‏

‏(‏‏(‏أحلت لنا ميتتان ودمان‏:‏ السمك والجراد، والكبد والطحال‏)‏‏)‏‏.‏

رواه أحمد، وابن ماجه، وفي إسناده نظر‏.‏

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في ‏(‏مسنده‏)‏‏:‏ وجدت في كتاب عن محمد بن معاوية البغدادي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه قال‏:‏

‏(‏‏(‏كلم الله هذا البحر الغربي، وكلم البحر الشرقي، فقال للغربي‏:‏ إني حامل فيك عباداً من عبادي، فكيف أنت صانع بهم‏؟‏‏.‏

قال أغرقهم‏.‏

قال‏:‏ بأسك في نواحيك، وحرمه الحلية والصيد‏.‏

وكلم هذا البحر الشرقي، فقال‏:‏ إني حامل فيك عباداً من عبادي، فما أنت صانع بهم‏؟‏‏.‏

قال‏:‏ أحملهم على يدي، وأكون لهم كالوالدة لولدها، فأثابه الحلية والصيد‏.‏ ثم قال لا تعلم أحداً‏)‏‏)‏‏.‏

ما رواه عن سهيل إلا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، وهو منكر الحديث‏.‏

قال‏:‏ وقد رواه سهيل، عن عبد الرحمن بن أبي عياش، عن عبد الله بن عمرو موقوفاً‏.‏

قلت‏:‏ الموقوف على عبد الله بن عمرو بن العاص أشبه، فإنه قد كان وجد يوم اليرموك زاملتين مملوءتين كتباً من علوم أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بأشياء كثيرة من الإسرائيليات، منها‏:‏ المعروف، والمشهور، والمنكور، والمردود‏.‏

فأما المعروف‏:‏ فتفرد به عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو القاسم المدني قاضيها‏.‏

قال فيه الإمام أحمد‏:‏ ليس بشيء، وقد سمعته منه، ثم مزقت حديثه، كان كذاباً، وأحاديثه مناكير‏.‏

وكذا ضعَّفه ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والجوزجاني، والبخاري، وأبو داود، والنسائي‏.‏

وقال ابن عدي‏:‏ عامة أحاديثه مناكير، وأفظعها حديث البحر‏.‏

قال علماء التفسير‏:‏ المتكلمون على العروض، والأطوال، والبحار، والأنهار، والجبال، والمساحات، وما في الأرض من المدن، والخراب والعمارات، والأقاليم السبعة الحقيقية، في اصطلاحهم، والأقاليم المتعددة العرفية، وما في البلدان والأقاليم من الخواص، والنباتات، وما يوجد في كل قطر من صنوف المعادن والتجارات‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/26‏)‏

قالوا‏:‏ الأرض مغمورة بالماء العظيم، إلا مقدار الربع منها، وهو‏:‏ تسعون درجة، والعناية الإلهية اقتضت انحسار الماء عن هذا القدر منها، لتعيش الحيوانات عليها، وتنبت الزرع، والثمار منها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 10 -13‏]‏‏.‏

قالوا‏:‏ المعمور من هذا البادي منها قريب الثلثين منه، أو أكثر قليلاً، وهو خمس وتسعون درجة‏.‏

قالوا‏:‏ فالبحر المحيط الغربي، ويقال له‏:‏ أوقيانوس، وهو الذي يتاخم بلاد المغرب، وفيه الجزائر الخالدات، وبينها وبين ساحله عشر درج، مسافة شهر تقريباً‏.‏

وهو بحر لا يمكن سلوكه، ولا ركوبه، لكثرة موجه، واختلاف ما فيه من الرياح والأمواج، وليس فيه صيد، ولا يستخرج منه شيء، ولا يسافر فيه لمتجر، ولا لغيره، وهو آخذ في ناحية الجنوب، حتى يسامت الجبال القمر‏.‏

ويقال جبال القمر، التي منها أصل منبع نيل مصر، ويتجاوز خط الإستواء، ثم يمتد شرقاً، ويصير جنوبي الأرض‏.‏

وفيه هناك جزائر الزابج، وعلى سواحله خراب كثير‏.‏ ثم يمتد شرقاً وشمالاً، حتى يتصل بحر الصين والهند‏.‏ ثم يمتد شرقاً حتى يسامت نهاية الأرض الشرقية المكشوفة‏.‏ وهناك بلاد الصين‏.‏

ثم ينعطف في شرق الصين، إلى جهة الشمال، حتى يجاوز بلاد الصين، ويسامت سد يأجوج، ومأجوج‏.‏

ثم ينعطف، ويستدير على أراضي غير معلومة الأحوال‏.‏

ثم يمتد مغرباً في شمال الأرض، ويسامت بلاد الروس، ويتجاوزها، ويعطف مغرباً وجنوباً، ويستدير على الأرض، ويعود إلى جهة الغرب، وينبثق من الغربي، إلى متن الأرض الزقاق، الذي ينتهي أقصاه إلى أطراف الشام من الغرب‏.‏

ثم يأخذ في بلاد الروم، حتى يتصل بالقسطنطينية وغيرها من بلادهم‏.‏

وينبعث من المحيط الشرقي بحار أخر، فيها جزائر كثيرة، حتى إنه يقال‏:‏ إن في بحر الهند ألف جزيرة، وسبعمائة جزيرة، فيها مدن، وعمارات، سوى الجزائر العاطلة، ويقال لها‏:‏ البحر الأخضر‏.‏ فشرقيه بحر الصين، وغربيه بحر اليمن، وشماله بحر الهند، وجنوبيه غير معلوم‏.‏

وذكروا أن بين بحر الهند، وبحر الصين، جبالاً فاصلة بينهما، وفيها فجاج يسلك المراكب بينها، يسيرها لهم الذي خلقها، كما جعل مثلها في البر أيضاً، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 31‏]‏‏.‏

وقد ذكر بطليموس أحد ملوك الهند، في كتابه المسمى ‏(‏بالمجسطي‏)‏ الذي عُرب في زمان المأمون، وهو أصل هذه العلوم، أن البحار المتفجرة من المحيط الغربي والشرقي، والجنوبي والشمالي، كثيرة جداً‏.‏

فمنها ما هو واحد، ولكن يسمى بحسب البلاد المتاخمة له‏.‏ فمن ذلك بحر القلزم‏.‏ والقلزم‏:‏ قرية على ساحله، قريب من أيلة‏.‏

وبحر فارس، وبحر الخزرة، وبحر ورنك، وبحر الروم، وبحر بنطش، وبحر الأزرق، مدينة على ساحله‏.‏ وهو بحر القرم أيضاً، ويتضايق حتى يصب في بحر الروم، عند جنوبي القسطنطينية، وهو خليج القسطنطينية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 27‏)‏

ولهذا تسرع المراكب في سيرها من القرم إلى بحر الروم، وتبطيء إذا جاءت من الإسكندرية إلى القرم، لاستقبالها جريان الماء‏.‏

وهذا من العجائب في الدنيا، فإن كل ماء جار، فهو حلو إلا هذا، وكل بحر راكد، فهو ملح أجاج، إلا ما يذكر عن بحر الخزر، وهو بحر جرجان، وبحر طبرستان، أن فيه قطعة كبيرة ماء حلواً فراتاً، على ما أخبر به المسافرون عنه‏.‏

قال أهل الهيئة‏:‏ وهو بحر مستدير الشكل إلى الطول ما هو‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مثلث كالقلع، وليس هو متصلاً بشيء من البحر المحيط، بل منفرد وحده، وطوله ثمانمائة ميل، وعرضه ستمائة، وقيل أكثر من ذلك، والله أعلم‏.‏

ومن ذلك‏:‏ البحر الذي يخرج منه المد والجزر، عند البصرة، وفي بلاد المغرب، نظيره أيضاً يتزايد الماء من أول الشهر، ولا يزال في زيادة إلى تمام الليلة الرابعة عشر منه، وهو المد‏.‏

ثم يشرع في النقص، وهو الجزر، إلى آخر الشهر‏.‏

وقد ذكروا تحديد هذه البحار، ومبتداها، ومنتهاها، وذكروا ما في الأرض من البحيرات المجتمعة من الأنهار، وغيرها من السيول، وهي البطائح‏.‏

وذكروا ما في الأرض من الأنهار المشهورة الكبار، وذكروا ابتداءها وانتهاءها، ولسنا بصدد بسط ذلك والتطويل فيه، وإنما نتكلم على ما يتعلق بالأنهار الوارد ذكرها في الحديث‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 23-34‏]‏‏.‏

ففي ‏(‏الصحيحين‏)‏‏:‏ من طريق قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر سدرة المنتهى، قال‏:‏

‏(‏‏(‏فإذا يخرج من أصلها نهران باطنان، ونهران ظاهران‏.‏

فأما الباطنان‏:‏ ففي الجنة، وأما الظاهران‏:‏ فالنيل، والفرات‏)‏‏)‏‏.‏

وفي لفظ في البخاري‏:‏ وعنصرهما أي مادتهما، أو شكلهما، وعلى صفتهما، ونعتهما، وليس في الدنيا مما في الجنة، إلا سماوية‏.‏

وفي ‏(‏صحيح مسلم‏)‏‏:‏ من حديث عبيد الله بن عمر، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، كل من أنهار الجنة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ابن نمير، ويزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏فجرت أربعة أنهار من الجنة‏:‏ الفرات، والنيل، وسيحان، وجيحان‏)‏‏)‏‏.‏ وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم‏.‏

وكأن المراد، والله أعلم من هذا‏:‏ أن هذه الأنهار تشبه أنهار الجنة في صفائها وعذوبتها وجريانها، ومن جنس تلك في هذه الصفات ونحوها، كما قال في الحديث الآخر، الذي رواه الترمذي، وصححه من طريق سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم‏)‏‏)‏‏.‏

أي تشبه ثمر الجنة، لا أنها مجتناة من الجنة، فإن الحس يشهد بخلاف ذلك، فتعين أن المراد غيره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/28‏)‏

وكذا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء‏)‏‏)‏‏.‏

وكذا قوله‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا اشتد الحمى، فأبردوها بالماء، فإن شدة الحر من فيح جهنم‏)‏‏)‏‏.‏

وهكذا هذه الأنهار، أصل منبعها مشاهد من الأرض‏.‏

أما النيل‏:‏ وهو النهر الذي ليس في أنهار الدنيا له نظير في خفته، ولطافته، وبعد مسراه فيما بين مبتداه إلى منتهاه؛ فمبتداه من الجبال القمر، أي البيض‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ جبال القمر بالإضافة إلى الكواكب، وهي‏:‏ في غربي الأرض، وراء خط الإستواء، إلى الجانب الجنوبي‏.‏

ويقال‏:‏ إنها حمر ينبع من بينها عيون، ثم يجتمع من عشر مسيلات متباعدة، ثم يجتمع كل خمسة منها في بحر، ثم يخرج منها أنهار ستة، ثم يجتمع كلها في بحيرة أخرى، ثم يخرج منها نهر واحد هو‏:‏ النيل، فيمر على بلاد السودان الحبشة، ثم على النوبة، ومدينتها العظمى دمقلة، ثم على أسوان، ثم يفدُ على ديار مصر‏.‏

وقد تحمل إليها من بلاد الحبشة زيادات أمطارها، واجترف من ترابها، وهي محتاجة إليهما معاً، لأن مطرها قليل، لا يكفي زروعها، وأشجارها‏.‏

وتربتها رمال، لا تنبت شيئاً، حتى يجيء النيل بزيادته وطينه، فينبت فيه ما يحتاجون إليه، وهي من أحق الأراضي، بدخولها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 27‏]‏‏.‏

ثم يجاوز النيل مصر قليلاً، فيفترق شطرين عند قرية على شاطئه، يقال لها‏:‏ شطنوف، فيمر الغربي على رشيد، ويصب في البحر المالح‏.‏

وأما الشرقي‏:‏ فتفترق أيضاً عند جوجر فرقتين، تمر الغربية منهما على دمياط من غربيها، ويصب في البحر‏.‏ والشرقية منهما تمر على أشمون طناح، فيصب هناك في بحيرة شرقي دمياط، يقال لها بحيرة تنيس، وبحيرة دمياط‏.‏

وهذا بعد عظيم فيما بين مبتداه إلى منتهاه‏.‏ ولهذا كان ألطف المياه‏.‏

قال ابن سينا‏:‏ له خصوصيات دون مياه سائر الأرض‏.‏

فمنها‏:‏ أنه أبعدها مسافة من مجراه إلى أقصاه‏.‏

ومنها‏:‏ أنه يجري على صخور ورمال، ليس فيه خز، ولا طحلب، ولا أوحال‏.‏

ومنها‏:‏ أنه لا يخضر فيه حجر، ولا حصاة، وما ذاك إلا لصحة مزاجه، وحلاوته، ولطافته‏.‏

ومنها‏:‏ أن زيادته في أيام نقصان سائر الأنهار، ونقصانه في أيام زيادتها وكثرتها‏.‏

وأما ما يذكره بعضهم من أن أصل منبع النيل من مكان مرتفع، اطلع عليه بعض الناس، فرأى هناك هولاً عظيماً، وجواري حساناً، وأشياء غريبة، وأن الذي اطلع على ذلك، لا يمكنه الكلام بعد هذا، فهو من خرافات المؤرخين، وهذيانات الأفاكين‏.‏

وقد قال عبدالله بن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عمن حدثه قال‏:‏ لما فتح عمرو بن عاص مصر، أتى أهلها إليه، حين دخل شهر بؤنة من أشهر العجم القبطية، فقالوا‏:‏ أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة، لا يجري إلا بها‏.‏

فقال لهم‏:‏ وما ذاك‏؟‏

قالوا‏:‏ إذا كان لثنتي عشرة ليلة، خلت من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي، والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو‏:‏

إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا بؤنة، والنيل لا يجري لا قليلاً، ولا كثيراً‏.‏

وفي رواية‏:‏ فأقاموا بؤنة، وأبيب، ومسرى، وهو لا يجري، حتى هموا بالجلاء‏.‏

فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر‏:‏ إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني قد بعثت إليك بطاقة، داخل كتابي هذا، فألقها في النيل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 29‏)‏

فلما قدِمَ كتابه، أخذ عمرو البطاقة، ففتحها، فإذا فيها‏:‏ من عبد الله عمر، أمير المؤمنين، إلى نيل مصر، أما بعد‏:‏

فإن كنت تجري من قبلك، فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله أن يجريك‏.‏

فألقى عمرو البطاقة في النيل، فأصبح يوم السبت‏.‏ وقد أجرى الله النيل، ستة عشر ذراعاً، في ليلة واحدة، وقطع الله تلك السنة، عن أهل مصر إلى اليوم‏.‏

وأما الفرات‏:‏ فأصلها من شمالي أررن الروم، فتمر إلى قرب ملطيه، ثم تمر على شميشاط، ثم على البيرة قبليها، ثم تشرق إلى بالس، وقلعة جعبر، ثم الرقة، ثم إلى الرحبة شماليها، ثم إلى عانة، ثم إلى هيت، ثم إلى الكوفة، ثم تخرج إلى فضاء العراق، ويصب في بطائح كبار، أي بحيرات وترد إليها، ويخرج منها أنهار كبار معروفة‏.‏

وأما سيحان‏:‏ ويقال له سيحون أيضاً، فأوله من بلاد الروم، ويجري من الشمال، والغرب، إلى الجنوب، والشرق، وهو غربي مجرى جيحان ودونه في القدر، وهو ببلاد الأرض التي تعرف اليوم ببلاد سيس، وقد كانت في أول الدولة الإسلامية في أيدي المسلمين‏.‏

فلما تغلب الفاطميون على الديار المصرية، وملكوا الشام وأعمالها، عجزوا عن صونها عن الأعداء، فتغلب تقفور الأرمني على هذه البلاد، أعني بلاد سيس، في حدود الثلاثمائة، وإلى يومنا هذا‏.‏ والله المسؤول عودها إلينا بحوله وقوته‏.‏

ثم يجتمع سيحان وجيحان عند أذنه فيصيران نهراً واحداً‏.‏ ثم يصبان في بحر الروم بين أياس، وطرسوس‏.‏

وأما جيحان‏:‏ ويقال له جيحون أيضاً، وتسميه العامة جاهان‏.‏ وأصله في بلاد الروم، ويسير في بلاد سيس، من الشمال إلى الجنوب، وهو يقارب الفرات في القدر، ثم يجتمع هو وسيحان عند أذنة، فيصيران نهراً واحداً، ثم يصبان في البحر عند اياس، وطرسوس، والله أعلم‏.‏

 فصل

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2-4‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ* أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 60-61‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/30‏)‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 10-12‏]‏‏.‏

فذكر تعالى‏:‏ ما خلق في الأرض، من الجبال، والأشجار، والثمار، والسهول، والأوعار، وما خلق من صنوف المخلوقات، من الجمادات، والحيوانات في البراري، والقفار، والبر، والبحار، ما يدل على عظمته وقدرته وحكمته ورحمته بخلقه، وما سهل لكل دابة من الرزق الذي هي محتاجة إليه، في ليلها ونهارها، وصيفها وشتائها، وصباحها ومسائها‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وقد روى الحافظ أبو يعلى، عن محمد بن المثنى، عن عبيد بن واقد، عن محمد بن عيسى بن كيسان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏

‏(‏‏(‏خلق الله ألف أمة، منها ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر، وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد، فإذا هلك تتابعت مثل النظام، إذا قطع سلكه‏)‏‏)‏‏.‏

عبيد بن واقد أبو عباد البصري، ضعفه أبو حاتم، وقال ابن عدي‏:‏ عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وشيخه أضعف منه‏.‏

قال الفلاس والبخاري‏:‏ منكر الحديث‏.‏

وقال أبو زرعة‏:‏ لا ينبغي أن يحدث عنه‏.‏

وضعفه ابن حبان، والدارقطني، وأنكر عليه ابن عدي هذا الحديث بعينه وغيره، والله أعلم‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏‏.‏

 ذكر ما يتعلق بخلق السموات وما فيهن من الآيات

قد قدمنا أن خلق الأرض قبل خلق السماء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ* فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9-12‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ءأنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27-30‏]‏، فإن الدحى غير الخلق، وهو بعد خلق السماء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/31‏)‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 1-5‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً * وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 12-13‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 15-16‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 61-62‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 6-10‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 16-18‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء 32-33‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 37-40‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96-97‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

والآيات في هذا كثيرة جداً، وقد تكلمنا على كل منها في التفسير‏.‏

والمقصود‏:‏ أنه تعالى يخبر عن خلق السموات وعظمة اتساعها، وارتفاعها، وأنها في غاية الحسن والبهاء، والكمال والسناء‏.‏

كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 7‏]‏، أي الخلق الحسن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/32‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3-4‏]‏‏.‏ أي‏:‏ خاسئاً عن أن يرى فيها نقصاً أو خللاً، وهو حسير أي كليل ضعيف‏.‏

ولو نظر حتى يعي ويكل ويضعف لما اطلع على نقص فيها ولا عيب، لأنه تعالى قد أحكم خلقها وزين بالكواكب أفقها، كما قال‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 1‏]‏ أي‏:‏ النجوم‏.‏

وقيل‏:‏ محال الحرس التي يرمي منها بالشهب لمسترق السمع، ولا منافاة بين القولين‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 16- 17‏]‏‏.‏

فذكر أنه زين منظرها بالكواكب الثوابت والسيارات، الشمس والقمر، والنجوم الزاهرات، وأنه صان حوزتها عن حلول الشياطين بها، وهذا زينة معنى فقال‏:‏ وحفظناها من كل شيطان رجيم‏.‏

كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 6- 7‏]‏‏.‏

قال البخاري في كتاب بدء الخلق، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏‏.‏

خلق هذه النجوم الثلاث، جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به‏.‏

وهذا الذي قاله قتادة مصرح به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 97‏]‏‏.‏

فمن تكلف غير هذه الثلاث، أي من علم أحكام ما تدل عليه حركاتها ومقارناتها في سيرها، وأن ذلك يدل على حوادث أرضية فقد أخطأ‏.‏

وذلك أن أكثر كلامهم في هذا الباب ليس فيه إلا حدس، وظنون كاذبة، ودعاوى باطلة، وذكر تعالى أنه خلق سبع سموات طباقاً أي‏:‏ واحدة فوق واحدة‏.‏

واختلف أصحاب الهيئة‏:‏ هل هن متراكمات‏؟‏ أو متفاصلات بينهن خلاء‏؟‏ على قولين‏:‏

والصحيح الثاني لما قدمنا من حديث عبد الله بن عميرة، عن الأحنف، عن العباس في حديث الأوعال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏أتدرون كم بين السماء والأرض‏؟‏‏)‏‏)‏

قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏بينهما مسيرة خمسمائة عام، ومن كل سماء إلى سماء خمسمائة سنة، وكثف كل سماء خمسمائة سنة‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏)‏‏.‏

الحديث بتمامه رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه‏.‏

وفي ‏(‏الصحيحين‏)‏ من حديث أنس في حديث الإسراء قال فيه‏:‏

‏(‏‏(‏ووجد في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل‏:‏ هذا أبوك آدم فسلم عليه، فرد عليه السلام‏.‏

وقال‏:‏ مرحباً وأهلاً بابني، نعم الابن أنت - إلى أن قال - ثم عرج إلى السماء الثانية، وكذا ذكر في الثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة‏)‏‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/33‏)‏

فدل على التفاضل بينها لقوله‏:‏ ‏(‏‏(‏ثم عرج بنا حتى أتينا السماء الثانية، فاستفتح فقيل من هذا‏؟‏‏)‏‏)‏ الحديث، وهذا يدل على ما قلناه، والله أعلم‏.‏

وقد حكى ابن حزم، وابن المنير، وأبو الفرج ابن الجوزي، وغير واحد من العلماء الإجماع على أن السموات‏:‏ كرة مستديرة‏.‏ واستدل على ذلك بقوله‏:‏ كل في فلك يسبحون‏.‏

قال الحسن‏:‏ يدورون، وقال ابن عباس‏:‏ في فلكة مثل فلكة المغزل‏.‏

قالوا‏:‏ ويدل على ذلك أن الشمس تغرب كل ليلة من المغرب، ثم تطلع في آخرها من المشرق، كما قال أمية ابن أبي الصلت‏.‏

والشمس تطلع كل آخر ليلة * حمراء مطلع لونها متورد

تأبى فلا تبدو لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد

فأما الحديث الذي رواه البخاري حيث قال‏:‏ حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس‏:‏

‏(‏‏(‏تدري أين تذهب‏؟‏‏)‏‏)‏

قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏

قال‏:‏ ‏(‏‏(‏فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها‏:‏ ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 38‏]‏‏)‏‏)‏‏.‏

هذا لفظه في بدء الخلق، ورواه في التفسير‏.‏

وفي التوحيد من حديث الأعمش أيضاً، ورواه مسلم في الإيمان من طريق الأعمش، ومن طريق يونس بن عبيد، وأبو داود من طريق الحكم بن عتبة، كلهم عن إبراهيم بن يزيد بن شريك، عن أبيه، عن أبي ذر به نحوه‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

إذا علم هذا فإنه حديث لا يعارض ما ذكرناه من استدارة الأفلاك التي هي السموات على أشهر القولين، ولا يدل على كرية العرش كما زعمه زاعمون قد أبطلنا قولهم فيما سلف، ولا يدل على أنها تصعد إلى فوق السموات من جهتنا حتى تسجد تحت العرش، بل هي تغرب عن أعيننا، وهي مستمرة في فلكها الذي هي فيه، وهو الرابع فيما قاله غير واحد من علماء التفسير‏.‏

وليس في الشرع ما ينفيه بل في الحس، وهو الكسوفات ما يدل عليه ويقتضيه، فإذا ذهبت فيه حتى تتوسطه، وهو وقت نصف الليل مثلاً في اعتدال الزمان، بحيث يكون بين القطبين الجنوبي والشمالي، فإنها تكون أبعد ما يكون من العرش لأنه مقبب من جهة وجه العالم، وهذا محل سجودها كما يناسبها‏.‏

كما أنها أقرب ما تكون من العرش وقت الزوال من جهتنا، فإذا كانت في محل سجودها، استأذنت الرب جل جلاله في طلوعها من الشرق، فيؤذن لها، فتبدو من جهة الشرق، وهي مع ذلك كارهة لعصاة بني آدم أن تطلع عليهم، ولهذا قال أمية‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/34‏)‏

تأبى فلا تبدو لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد

فإذا كان الوقت الذي يريد الله طلوعها من جهة مغربها تسجد على عادتها، وتستأذن في الطلوع من عادتها، فلا يؤذن لها، فجاء أنها تسجد أيضاً، ثم تستأذن، فلا يؤذن لها، ثم تسجد، فلا يؤذن لها، وتطول تلك الليلة كما ذكرنا في التفسير، فتقول‏:‏ يا رب إن الفجر قد اقترب، وإن المدى بعيد‏.‏

فيقال لها‏:‏ ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها‏.‏

فإذا رآها الناس آمنوا جميعاً، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً، وفسروا بذلك قوله تعالى ‏{‏وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا‏}‏‏]‏ يس‏:‏ 38‏[‏

قيل‏:‏ لوقتها الذي تؤمر فيه تطلع من مغربها‏.‏

وقيل‏:‏ مستقرها‏:‏ موضعها الذي تسجد فيه تحت العرش‏.‏

وقيل‏:‏ منتهى سيرها، وهو آخر الدنيا‏.‏

وعن ابن عباس أنه قرأ‏:‏ والشمس تجري لا مستقر لها، أي‏:‏ ليست تستقر، فعلى هذا تسجد وهي سائرة‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏‏.‏‏[‏يس‏:‏ 40‏]‏‏.‏

أي‏:‏ لا تدرك الشمس القمر، فتطلع في سلطانه ودولته، ولا هو أيضاً، ولا الليل سابق النهار، أي ليس سابقه بمسافة يتأخر ذاك عنه فيها، بل إذا ذهب النهار جاء الليل في أثره متعقباً له‏.‏

كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 62‏]‏، أي‏:‏ يخلف هذا لهذا، وهذا لهذا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

فالزمان المحقق ينقسم إلى ليل ونهار، وليس بينهما غيرهما، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يولج اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏‏.‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 13‏]‏ فيولج من هذا في هذا، أي يأخذ من طول هذا في قصر هذا، فيعتدلان كما في أول فصل الربيع، يكون الليل قبل ذلك طويلاً والنهار قصيراً، فلا يزال الليل ينقص، والنهار يتزايد، حتى يعتدلا، وهو أول الربيع‏.‏

ثم يشرع النهار يطول ويتزايد، والليل يتناقص حتى يعتدلا أيضاً في أول فصل الخريف‏.‏

ثم يشرع الليل يطول، ويقصر النهار إلى آخر فصل الخريف، ثم يترجح النهار قليلاً قليلاً، ويتناقص الليل شيئاً فشيئاً، حتى يعتدلا في أول فصل الربيع كما قدمنا، وهكذا في كل عام‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 80‏]‏ أي‏:‏ هو المتصرف في ذلك كله، الحاكم الذي لا يخالف ولا يمانع‏.‏

ولهذا يقول في ثلاث آيات عند ذكر السموات، والنجوم، والليل والنهار ‏{‏ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 38‏]‏‏.‏

أي‏:‏ العزيز الذي قد قهركل شيء، ودان له كل شيء، فلا يمانع ولا يغالب، العليم بكل شيء، فقدر كل شيء تقديراً على نظام لا يختلف ولا يضطرب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/35‏)‏

وقد ثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏، من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏قال الله‏:‏ يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار‏)‏‏)‏‏.‏

وفي رواية‏:‏ ‏(‏‏(‏فأنا الدهر، أقلب ليله ونهاره‏)‏‏)‏‏.‏

قال العلماء كالشافعي، وأبي عبيد القاسم بن سلام، وغيرهما‏:‏ يسب الدهر، أي يقول‏:‏ فعل بنا الدهر كذا، يا خيبة الدهر، أيتم الأولاد، أرمل النساء‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنا الدهر‏)‏‏)‏ أي‏:‏ أنا الدهر الذي يعنيه، فإنه فاعل ذلك، الذي أسنده إلى الدهر، والدهر مخلوق، وإنما فعل هذا هو الله، فهو يسب فاعل ذلك، ويعتقده الدهر، والله هو الفاعل لذلك، الخالق لكل شيء، المتصرف في كل شيء، كما قال‏:‏ ‏(‏‏(‏وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب ليله ونهاره‏)‏‏)‏‏.‏

وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26- 27‏]‏‏.‏

‏(‏‏(‏إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم‏)‏‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 5-6‏]‏‏.‏

أي‏:‏ فاوت بين الشمس والقمر في نورهما، وفي شكلهما، وفي وقتهما، وفي سيرهما، فجعل هذا ضياء، وهو شعاع الشمس برهان ساطع، وضوء باهر، والقمر نوراً أي أضعف من برهان الشمس، وجعله مستفاداً من ضوئها، وقدره منازل أي‏:‏

يطلع أول ليلة من الشهر صغيراً ضئيلاً، قليل النور، لقربه من الشمس، وقلة مقابلته لها، فبقدر مقابلته لها يكون نوره‏.‏

ولهذا في الليلة الثانية يكون أبعد منها بضعف ما كان في الليلة الأولى، فيكون نوره بضعف النور أول ليلة‏.‏

ثم كلما بعُد ازداد نوره، حتى يتكامل إبداره ليلة مقابلته إياها من المشرق، وذلك ليلة أربع عشرة من الشهر‏.‏

ثم يشرع في النقص لاقترابه إليها من الجهة الأخرى إلى آخر الشهر، فيستتر، حتى يعود كما بدأ في أول الشهر الثاني‏.‏

فبه تعرف الشهور، وبالشمس تعرف الليالي والأيام، وبذلك تعرف السنين والأعوام، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ‏}‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/36‏)‏

وقد بسطنا القول على هذا كله في التفسير، فالكواكب التي في السماء، منها سيارات، وهي المتخيرة في اصطلاح علماء التفسير، وهو علم غالبه صحيح، بخلاف علم الأحكام فإن غالبه باطل، ودعوى ما لا دليل عليه، وهي سبعة‏:‏

القمر في سماء الدنيا‏.‏

وعطارد في الثانية‏.‏

والزهرة في الثالثة‏.‏

والشمس في الرابعة‏.‏

والمريخ في الخامسة‏.‏

والمشتري في السادسة‏.‏

وزحل في السابعة‏.‏

وبقية الكواكب يسمونها الثوابت، وهي عندهم في الفلك الثامن، وهو الكرسي في اصطلاح كثير من المتأخرين‏.‏

وقال آخرون‏:‏ بل الكواكب كلها في السماء الدنيا، ولا مانع من كون بعضها فوق بعض، وقد يستدل على هذا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وبقوله‏:‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏‏.‏

فخص سماء الدنيا من بينهن بزينة الكواكب، فإن دل هذا على كونها مرصعة فيها فذاك، وإلا فلا مانع مما قاله الآخرون، والله أعلم‏.‏

وعندهم‏:‏ أن الأفلاك السبعة، بل الثمانية تدور بما فيها من الكواكب الثوابت، والسيارات تدور على خلاف فلكه من المغرب إلى المشرق، فالقمر يقطع فلكه في شهر‏.‏ والشمس تقطع فلكها وهو الرابع في سنة‏.‏

فإذا كان السيران ليس بينهما تفاوت، وحركاتهما متقاربة، كان قدر السماء الرابعة بقدر السماء الدنيا ثنتي عشرة مرة، وزحل يقطع فلكه وهو السابع في ثلاثين سنة، فعلى هذا يكون بقدر السماء الدنيا ثلاثمائة وستين مرة‏.‏

وقد تكلموا على مقادير أجرام هذه الكواكب، وسيرها، وحركاتها، وتوسعوا في هذه الأشياء حتى تعدوا إلى علم الأحكام، وما يترتب على ذلك من الحوادث الأرضية، ومما لا علم لكثير منهم به‏.‏

وقد كان اليونانيون الذين كانوا يسكنون الشام قبل زمن المسيح عليه السلام بدهور لهم في هذا كلام كثير، يطول بسطه، وهم الذين بنوا مدينة دمشق، وجعلوا لها أبواباً سبعة، وجعلوا على رأس كل باب هيكلاً على صفة الكواكب السبعة، يعبدون كل واحد في هيكله، ويدعونه بدعاء يأثره عنهم غير واحد من أهل التواريخ، وغيرهم‏.‏

وذكره صاحب السر المكتوم في مخاطبة الشمس والقمر والنجوم، وغيره من علماء الحرنانيين ‏(‏فلاسفة حران‏)‏ في قديم الزمان، وقد كانوا مشركين يعبدون الكواكب السبع، وهم طائفة من الصابئين‏.‏

ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وقال تعالى إخباراً عن الهدهد‏:‏ أنه قال لسليمان عليه السلام مخبراً عن بلقيس وجنودها ملكة سبأ في اليمن وما والاها‏:‏ ‏{‏إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 23 -26‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/37‏)‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ‏}‏‏[‏الحج‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 48-50‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏‏.‏ والآيات في هذا كثيرة جداً‏.‏

ولما كان أشرف الأجرام المشاهدة في السموات والأرض هي الكواكب، وأشرفهن منظراً، وأشرفهن معتبراً‏:‏ الشمس والقمر، استدل الخليل على بطلان إلهية شيء منهن، وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏‏.‏ أي للغائبين‏.‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 77-79‏]‏‏.‏

فبين بطريق البرهان القطعي أن هذه الأجرام المشاهدات من الكواكب والقمر والشمس، لا يصلح شيء منها للألوهية، لأنها كلها مخلوقة مربوية، مدبرة مسخرة في سيرها، لا تحيد عما خلقت له، ولا تزيغ عنه إلا بتقدير متقن محرر، لا تضطرب ولا تختلف‏.‏

وذلك دليل على كونها مربوبة مصنوعة مسخرة مقهورة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏‏.‏

وثبت في ‏(‏الصحيحين‏)‏ في صلاة الكسوف، من حديث ابن عمر، وابن عباس، وعائشة وغيرهم، من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ‏:‏

‏(‏‏(‏إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته‏)‏‏)‏‏.‏

وقال البخاري في بدء الخلق‏:‏ حدثنا مسدد، حدثنا عبد العزيز بن المختار، حدثنا عبد الله الداناج، حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏الشمس والقمر مكوران يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

انفرد به البخاري‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 38‏)‏

وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار بأبسط من هذا السياق، فقال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن زياد البغدادي، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد الله الداناج، سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن زمن خالد بن عبد الله القسري في هذا المسجد -مسجد الكوفة- وجاء الحسن، فجلس إليه، فحدث قال‏:‏ حدثنا أبو هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

فقال الحسن‏:‏ وما دينهما‏؟‏

فقال‏:‏ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول وما دينهما‏.‏

ثم قال البزار لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه، ولم يرو عبد الله الداناج عن أبي سلمه سوى هذا الحديث‏.‏

وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي من طريق يزيد الرقاشي، وهو ضعيف، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏الشمس والقمر ثوران عقيران في النار‏)‏‏)‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، وعمر بن عبد الله الأزدي، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن شيخ من بجيلة، عن ابن عباس ‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 1‏]‏ قال‏:‏ يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر، ويبعث الله ريحاً دبوراً فتضرمها ناراً‏.‏

فدلت هذه الآثار على أن الشمس والقمر من مخلوقات الله، خلقها الله لما أراد، ثم يفعل فيها ما يشاء، وله الحجة الدافعة، والحكمة البالغة، فلا يسأل عما يفعل لعلمه وحكمته وقدرته، ومشيئته النافذة، وحكمه الذي لا يرد ولا يمانع ولا يغالب‏.‏

وما أحسن ما أورده الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في أول كتاب ‏(‏السيرة‏)‏ من الشعر لزيد بن عمرو بن نفيل، في خلق السماء والأرض، والشمس والقمر، وغير ذلك‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ هي لأمية بن أبي الصلت‏:‏

إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا * وقولا رضيا لا يني الدهر باقيا

إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه * إله ولا رب يكون مدانيا

ألا أيها الإنسان إياك والردى * فإنك لا تخفي من الله خافيا

وإياك لا تجعل مع الله غيره * فإن سبيل الرشد أصبح باديا

حنانيك إن الجن كانت رجاءهم * وأنت إلهي ربنا ورجائيا

رضيت بك اللهم ربا فلن أرى * أدين إلها غيرك الله ثانيا

وأنت الذي من فضل منّ ورحمة * بعثت إلى موسى رسولا مناديا

فقلت له اذهب وهارون فادعُ * إلى الله فرعون الذي كان طاغيا

‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 39‏)‏

وقولا له أأنت سويت هذه * بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا

وقولا له آنت رفعت هذه * بلا عمد ارفق إذا بك بانيا

وقولا له آنت سويت وسطها * منيرا إذا ماجنه الليل هاديا

وقولا له من يرسل الشمس غدوة * فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا

وقولا له من ينبت الحب في الثرى * فيصبح منه البقل يهتز رابيا

ويخرج منه حبه في رؤسه * وفي ذاك آيات لمن كان واعيا

وأنت بفضل منك نجيت يونسا * وقد بات في أضعاف حوت لياليا

وإني لو سبحت باسمك ربنا * لأكثر إلا ما غفرت خطائيا

فرب العباد ألق سيبا ورحمة * علي وبارك في بني وماليا

فإذا علم هذا، فالكواكب التي في السماء من الثوابت والسيارات الجميع مخلوقة، خلقها الله تعالى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وأما ما يذكره كثير من المفسرين في قصة هاروت وماروت، من أن الزهرة كانت امرأة، فراوداها على نفسها، فأبت إلا أن يعلماها الاسم الأعظم، فعلماها فقالته، فرفعت كوكباً إلى السماء، فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين، وإن كان قد أخرجه كعب الأحبار، وتلقاه عنه طائفة من السلف، فذكروه على سبيل الحكاية، والتحديث عن بني إسرائيل‏.‏

وقد روى الإمام أحمد، وابن حبان في ‏(‏صحيحه‏)‏، في ذلك حديثاً رواه أحمد، عن يحيى ابن بكير، عن زهير بن محمد، عن موسى بن جبير، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر القصة بطولها‏.‏

وفيه‏:‏ ‏(‏‏(‏فمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما، فسألاها نفسها‏)‏‏)‏ وذكر القصة‏.‏

وقد رواه عبد الرزاق في ‏(‏تفسيره‏)‏ عن الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن كعب الأحبار به‏.‏ وهذا أصح وأثبت‏.‏

وقد روى الحاكم في ‏(‏مستدركه‏)‏ هو ابن أبي حاتم في ‏(‏تفسيره‏)‏ عن ابن عباس، فذكره، وقال فيه‏:‏ ‏(‏‏(‏وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب‏)‏‏)‏ وذكر تمامه‏.‏

وهذا أحسن لفظ روي في هذه القصة، والله أعلم‏.‏

وهكذا الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الملك الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا مبشر بن عبيد، عن يزيد بن أسلم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وحدثنا عمرو بن عيسى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سهيلاً فقال‏:‏

‏(‏‏(‏كان عشاراً ظلوماً، فمسخه الله شهاباً‏)‏‏)‏‏.‏

ثم قال‏:‏ لم يروه عن زيد بن أسلم إلا مبشر بن عبيد، وهو ضعيف الحديث‏.‏ ولا عن عمرو بن دينار إلا إبراهيم بن يزيد وهو لين الحديث‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 1/ 40‏)‏

وإنما ذكرناه على ما فيه من علة، لأنا لم نحفظه إلا من هذين الوجهين‏.‏ قلت‏:‏ أما مبشر بن عبيد القرشي فهو أبو حفص الحمصي، وأصله من الكوفة، فقد ضعفه الجميع، وقال فيه الإمام أحمد، والدارقطني‏:‏ كان يضع الحديث، ويكذب‏.‏

وأما إبراهيم بن يزيد فهو - الخوزي - وهو ضعيف باتفاقهم، قال فيه أحمد، والنسائي‏:‏ متروك‏.‏

وقال ابن معين‏:‏ ليس بثقة، وليس بشيء‏.‏

وقال البخاري‏:‏ سكتوا عنه‏.‏

وقال أبو حاتم، وأبو زرعة‏:‏ منكر الحديث، ضعيف الحديث‏.‏

ومثل هذا الإسناد لا يثبت به شيء بالكلية، وإذا أحسنا الظن قلنا‏:‏ هذا من أخبار بني إسرائيل كما تقدم من رواية ابن عمر عن كعب الأحبار، ويكون من خرافاتهم التي لا يعول عليها، والله أعلم‏.‏